إن عرض هذا الموضوع في هذه الأوقات من الأهمية بمكان ، وذلك لعدةِ أسبابٍ ، منها :
1- حالُ الأمةِ اليومَ - إلا من رحم الله – هو القعودُ عنِ النَّصِيْحَةِ .
مع أنَّ الأصل في الأمة الإسلامية النصح والتناصح ، لقوله تعالي ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... )(آل عمران: من الآية110) ، فإن ذلك يكاد يكون اليوم مفقوداً بيننا ، وبخاصة في ضرورات حياتنا ، من حفظ الدين والنسل والنفس والعقل والمال ، حيث يقعُ الإهدار والاعتداء علي هذه الضرورات من المسلمين أنفسهم ، بعضهم علي بعض ، بوسائل متعددة ، دون أن يوجد الناصحون الذين يكفون لحماية الحق وأهله ، بردع المعتدي وعدوانه ، وبذلك فقد المسلمون – أفرادا وشعوبا ودولا – العزة بفقد أهم مقوماتها وتسلط عليهم أعداؤهم بالاعتداء علي تلك الضرورات فأذلوهم جميعا جزاء وفاقا .
فجاءت هذه الرسالة تبين حكم النصيحة ، وعقوبة التخلف عن أداء هذا الواجب ، وتبين أن النصيحة هي الدين .
2- رفض النصح أصبح علي كل المستويات .
إن عدم قبول النصيحة ليس محصورا في طبقة معينة ، فلا نخدع أنفسنا ! لنقول إنَّ هذا العيب اليوم في الحاكم ، أو في العالم ، أو في الداعية ، ولكن هذا العيب موجود في الجميع ، بدون استثناء من القمة إلي القاعدة .
موجود عند بعض العلماء والدعاة والمجتهدين ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون .
فنجد أن المعلم مثلا يستثقل أن يصحح الطالب له خطأ ، وتجد الداعية يستغرب أن يصحح أحد الاتباع عليه شيئا وقع فيه ولا يعطيه من الحرية إلا هامشا صغيرا جدا .
ولذلك نقول : إن الأمة اليوم لا زالت تعد النصح نوعا من الاستفزاز أو حطا للمكانة ، فلم يتعود الناس علي هذا ولم تتعود آذانهم عليه ! ولهذا صاروا يشمئزون منه ويستغربونه ويرونه شيئا عظيما !
فجاءت هذه الرسالة تبين : أن النصيحة لا تعني انتقاص شأن المنصوح ، أو تكبر وترفع الناصح ، بل النصيحة تعني : الصدق ، والإخلاص ، وقبول الحق من أيِّ شخص كان ، وتبين أن الرجوع عن الخطأ هو الكمال المطلق .
3- خلطُ كثيرٍ من الناسِ بين النصيحة ، والفضيحة ( التعيير ، أو التثريب) أو بين النصيحة والغيبة .
( فإنهما يشتركان في أن كلا منهما : ذكر الإنسان بما يكره ذكره .
فذكر الإنسان بما يكره إذا كان المقصود منه الذم والعيب والنقص ، فهو حرام لأنه نوع من الغيبة المحرمة ومع ذلك فقد استثني العلماء بعض الحالات التي يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته .
وكذلك فقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم ، وذكروا الفرق بين جروح الرواة ، وبين الغيبة وردوا علي من ساوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه )[3]
فجاءت هذه الرسالة تبين متي يجهر بالنصيحة ومتي يسرها ، ومع الجهر لا تكن تعييرا ولا تكن غيبة أو مع الإسرار لا تكن سكوتا عن الحق .
4
- اتهام المنصوح للناصح .
إنك تجد المسلمين اليوم – إلا من رحم – ومع الأسف نجد أن كثيرا من الجماعات الإسلامية قد تعد من ينصحونها أعداء لها ، بل ربما تعدهم أحياناً أعداء للإسلام ذاته ، أما الأفراد فغالبنا يري من ينصحه ، أو يستدرك عليه ، أو يصحح خطأ وقع فيه ، حاسداً له ، أو حاقداً عليه .
فجاءت هذه الرسالة تبين أن الأصل في الناصح الأمانة ولا يجوز اتهامه في نيته ، بل يجب إكرامه ؛ ليعين المنصوح علي الحق ، إلا إذا جاءت القرائن الواضحة ، التي تدل علي فساد نيته ، وقصده ، فينتبه المنصوح لقصده ويتعامل معه ، مع عدم الإغفال عن الخطأ الذي نبهه عليه .
5- الاعتراف بالأخطاء إجمالاً مع عدم الاعتراف بآحادها ، وعدم تقبل مناقشاتها والدفاع عنها بصورة أو بأخرى .
نجد كثيرا من الناس يقول : نحن لسنا بمعصومين ، ونحن جميعا عرضة للخطأ ، لكنه يقف عند هذا الاعتراف المجمل المبهم ، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلي تشخيص الأخطاء ، والاعتراف الجاد بآحاد هذه الأخطاء ، ومن ثم السعي إلي التصحيح .
نعم نحن نقول : لم يَدَّع أحدٌ أنك مَلَك حتى تقول : أنا بشر ، ولم يدع أحد انك نبي أو رسول حتى تقول : أنا لست بمعصوم . كل الناس يعرفون أنك بشر ، وأنك عرضة للخطأ ، وكل إنسان يعترف بهذا ، بل قال كثير من الناس هذا الكلام وفي محاولة لتجاهل الأخطاء ، والدفاع عنها ، وإلباسها ثوب الصواب .
وبناء عليه نقول : هذا الاعتراف المبهم بأنك بشر ، أو أنك لست بمعصوم ، أو عرضة للخطأ ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا ينفعنا في قليل ولا كثير ، ما لم يتبعه شجاعة علي تقبل مناقشة هذه الأخطاء .
فجاءت هذه الرسالة تبين ما يجب علي المنصوح قبل النصيحة وأثناءها وبعدها .
6
- سلوك كثير من المنتصحين أو الناصحين للمنهج الفرعوني .
إن كثيرا من المنتسببين إلي الإسلام أقرب ما يكونون إلي سلوك المنهج الفرعوني الذي يقول ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(غافر: من الآية29) .
ومن الصعب جدا علي كثير من الناس اليوم ، ممن ينتسبون إلي هذا الدين أيا كانوا سواء أكانوا من أصحاب النفوذ والسلطان أو العلماء أو الدعاة أو عامة من الناس ، من أصعب الأمور علي أحدهم أن يصغي أذنيه لتقبل النصيحة أو ملاحظة ، فضلا أن يوافق علي ذلك أو يسعى إلي تصحيح أخطاءه ، وكذلك من الصعب أن يقتنع الناصح بأي أعذار يتقدم بها المنصوح ، حتى إذا تحدثا أصبح حديثهم يشبه "حديث الطرشان" الذي لا يسمع أحدهما للآخر .
فجاءت هذه الرسالة تبين ما ينبغي علي الناصح والمنتصح من شروط علمية وأخلاقية ، وآداب نبوية ، أسأل الله سبحانه وتعالي أن ينفع بها .
7- تفشي ظاهرة زلات العلماء .[4]
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ][5]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : [يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله e فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ][6]
فإن ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه )[7].
وعلاقة زلة العالم بالنصيحة : أن كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ....)[8]. من أجل ذلك كان واجبا على الأتباع تجاه زلة العالم التحذير منها والإنكار على من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي e في النصيحة وآدابها.
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها )[9].
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، وورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله )[10]
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة )[11] .
الثاني : نصيحة الناس من الوقوع فيها ، سواء كانوا من أئمة المسلمين أو عوامهم.
قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إن ابن المبارك قال :كذا . فقال : إن ابن المبارك لم ينزل من السماء .[12]
و قال الإمام القرطبي في تفسيره : و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لا حجة في قول أحد مع السنة ) .
8- تفشي ظاهرة التطاول علي العلماء ، أو التعصب لهم .[13]
إن الناس في هذا الزمان قد اختلفت مواقفهم مع العلماء إلي ثلاثة أصناف .
الصنف الأول :
محب لهم مشفق عليهم ، منتبه لزللهم يدعو لهم ، يتحاشى الوقوع في أعراضهم ، يحاول جاهدا ، عدم المساس بهم ، لا كرامة لهم فقط ، وإنما كرامةً لمكانتهم التي في قلوب الناس جميعا ، مطيعهم وعاصيهم ، ويبذل النصيحة الواجبة لهم ، بأدب يليق بمكانتهم ، سالكا طرائقه الشرعية .
ولا شك أن هذا المسلك صواب لا غبار عليه ، وهو بعض ما نريد أنَّ نذهب إليه من خلال هذه الرسالة .
الصنف الثاني :
مبالغ في حبهم ، لا يري خطأ عليهم ، أو تقصيراً في جانبهم ، لذا لا يري نصحهم أو بمعني أخر ، تبيين الأمر وتجليته لهم ، وفي المقابل يشنع علي من بذل النصيحة لهم ، ويري الصواب دائماً في كل ما يقولون أو يسكتون عليه ، وكأنهم معصومين من الزلل والخطأ ، ولا شك أن هذا مسلك خطأ كثير فساده .[14]
الصنف الثالث :
صنف تحامل علي العلماء ، لشدة ما يري أنهم قصروا عن أداء ما كلفهم الله عن بذل الوسع في الصدع بالحق ، وعدم الخوف والملامة إلا من الله .
فهؤلاء أرخوا العنان لأقلامهم ، ووسعوا دائرة سبهم ، وتناولوا أعراضهم في كل شاردة وواردة ، وفي كل صغيرة وكبيرة ، وحملوهم وزر الأمة والوقوع في الغمة !!
وأخذ – هؤلاء – على متابعتهم وتتبعهم ، ومناقشة طرحهم ، ورد كلامهم وتسفيه عقولهم ، بل لا أبالغ إذا وصل الأمر إلى تكذيبهم .
وهذا الصنف الأخير محق في غضبه ، وزيادة ألمه ، ولكنه ، غير محق في إسقاط مكانتهم - شعروا بذلك أو لم يشعروا - بسبب موقف أو اثنين أو عشرة ؛ وذلك لأن الدين نصيحة وهذه النصيحة لها هدي يجب أن نتبعه كأي عبادة من العبادات لابد فيها الإخلاص مع متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، و [ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ][15] .
9- عدم الالتزام بآداب النصيحة
وهذا السبب يعتبر جامع لكل الأسباب المتقدمة وغيرها ، فإن كثيرا من الناصحين ، وكذلك المنتصحين لا يلتزمون بآداب النصيحة ، وذلك إما لجهلهم بها وهم كثر ، وإما لغفلتهم عنها .
فينتج عن ذلك الخلاف ، والشقاق ، واتهام كل طرف للآخر .
فإن كثيرا من المخلصين لا يتبع هدي النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في النصيحة ، مكتفيا بإخلاصه ، والعمل لا يكن مقبولا إلا إذا كان خالصا ، وصوابا .
فجاءت هذه الرسالة تبين هذه الآداب ، وأنها تتعلق بالناصح والمنصوح ، قبل النصيحة ، وأثناءها ، وبعدها .
من أجل ذلك كله ، جاءت هذه الرسالة ، راجيا من الله – سبحانه وتعالى أن ينفع بها
1- حالُ الأمةِ اليومَ - إلا من رحم الله – هو القعودُ عنِ النَّصِيْحَةِ .
مع أنَّ الأصل في الأمة الإسلامية النصح والتناصح ، لقوله تعالي ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... )(آل عمران: من الآية110) ، فإن ذلك يكاد يكون اليوم مفقوداً بيننا ، وبخاصة في ضرورات حياتنا ، من حفظ الدين والنسل والنفس والعقل والمال ، حيث يقعُ الإهدار والاعتداء علي هذه الضرورات من المسلمين أنفسهم ، بعضهم علي بعض ، بوسائل متعددة ، دون أن يوجد الناصحون الذين يكفون لحماية الحق وأهله ، بردع المعتدي وعدوانه ، وبذلك فقد المسلمون – أفرادا وشعوبا ودولا – العزة بفقد أهم مقوماتها وتسلط عليهم أعداؤهم بالاعتداء علي تلك الضرورات فأذلوهم جميعا جزاء وفاقا .
فجاءت هذه الرسالة تبين حكم النصيحة ، وعقوبة التخلف عن أداء هذا الواجب ، وتبين أن النصيحة هي الدين .
2- رفض النصح أصبح علي كل المستويات .
إن عدم قبول النصيحة ليس محصورا في طبقة معينة ، فلا نخدع أنفسنا ! لنقول إنَّ هذا العيب اليوم في الحاكم ، أو في العالم ، أو في الداعية ، ولكن هذا العيب موجود في الجميع ، بدون استثناء من القمة إلي القاعدة .
موجود عند بعض العلماء والدعاة والمجتهدين ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون .
فنجد أن المعلم مثلا يستثقل أن يصحح الطالب له خطأ ، وتجد الداعية يستغرب أن يصحح أحد الاتباع عليه شيئا وقع فيه ولا يعطيه من الحرية إلا هامشا صغيرا جدا .
ولذلك نقول : إن الأمة اليوم لا زالت تعد النصح نوعا من الاستفزاز أو حطا للمكانة ، فلم يتعود الناس علي هذا ولم تتعود آذانهم عليه ! ولهذا صاروا يشمئزون منه ويستغربونه ويرونه شيئا عظيما !
فجاءت هذه الرسالة تبين : أن النصيحة لا تعني انتقاص شأن المنصوح ، أو تكبر وترفع الناصح ، بل النصيحة تعني : الصدق ، والإخلاص ، وقبول الحق من أيِّ شخص كان ، وتبين أن الرجوع عن الخطأ هو الكمال المطلق .
3- خلطُ كثيرٍ من الناسِ بين النصيحة ، والفضيحة ( التعيير ، أو التثريب) أو بين النصيحة والغيبة .
( فإنهما يشتركان في أن كلا منهما : ذكر الإنسان بما يكره ذكره .
فذكر الإنسان بما يكره إذا كان المقصود منه الذم والعيب والنقص ، فهو حرام لأنه نوع من الغيبة المحرمة ومع ذلك فقد استثني العلماء بعض الحالات التي يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته .
وكذلك فقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم ، وذكروا الفرق بين جروح الرواة ، وبين الغيبة وردوا علي من ساوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه )[3]
فجاءت هذه الرسالة تبين متي يجهر بالنصيحة ومتي يسرها ، ومع الجهر لا تكن تعييرا ولا تكن غيبة أو مع الإسرار لا تكن سكوتا عن الحق .
4
- اتهام المنصوح للناصح .
إنك تجد المسلمين اليوم – إلا من رحم – ومع الأسف نجد أن كثيرا من الجماعات الإسلامية قد تعد من ينصحونها أعداء لها ، بل ربما تعدهم أحياناً أعداء للإسلام ذاته ، أما الأفراد فغالبنا يري من ينصحه ، أو يستدرك عليه ، أو يصحح خطأ وقع فيه ، حاسداً له ، أو حاقداً عليه .
فجاءت هذه الرسالة تبين أن الأصل في الناصح الأمانة ولا يجوز اتهامه في نيته ، بل يجب إكرامه ؛ ليعين المنصوح علي الحق ، إلا إذا جاءت القرائن الواضحة ، التي تدل علي فساد نيته ، وقصده ، فينتبه المنصوح لقصده ويتعامل معه ، مع عدم الإغفال عن الخطأ الذي نبهه عليه .
5- الاعتراف بالأخطاء إجمالاً مع عدم الاعتراف بآحادها ، وعدم تقبل مناقشاتها والدفاع عنها بصورة أو بأخرى .
نجد كثيرا من الناس يقول : نحن لسنا بمعصومين ، ونحن جميعا عرضة للخطأ ، لكنه يقف عند هذا الاعتراف المجمل المبهم ، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلي تشخيص الأخطاء ، والاعتراف الجاد بآحاد هذه الأخطاء ، ومن ثم السعي إلي التصحيح .
نعم نحن نقول : لم يَدَّع أحدٌ أنك مَلَك حتى تقول : أنا بشر ، ولم يدع أحد انك نبي أو رسول حتى تقول : أنا لست بمعصوم . كل الناس يعرفون أنك بشر ، وأنك عرضة للخطأ ، وكل إنسان يعترف بهذا ، بل قال كثير من الناس هذا الكلام وفي محاولة لتجاهل الأخطاء ، والدفاع عنها ، وإلباسها ثوب الصواب .
وبناء عليه نقول : هذا الاعتراف المبهم بأنك بشر ، أو أنك لست بمعصوم ، أو عرضة للخطأ ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا ينفعنا في قليل ولا كثير ، ما لم يتبعه شجاعة علي تقبل مناقشة هذه الأخطاء .
فجاءت هذه الرسالة تبين ما يجب علي المنصوح قبل النصيحة وأثناءها وبعدها .
6
- سلوك كثير من المنتصحين أو الناصحين للمنهج الفرعوني .
إن كثيرا من المنتسببين إلي الإسلام أقرب ما يكونون إلي سلوك المنهج الفرعوني الذي يقول ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(غافر: من الآية29) .
ومن الصعب جدا علي كثير من الناس اليوم ، ممن ينتسبون إلي هذا الدين أيا كانوا سواء أكانوا من أصحاب النفوذ والسلطان أو العلماء أو الدعاة أو عامة من الناس ، من أصعب الأمور علي أحدهم أن يصغي أذنيه لتقبل النصيحة أو ملاحظة ، فضلا أن يوافق علي ذلك أو يسعى إلي تصحيح أخطاءه ، وكذلك من الصعب أن يقتنع الناصح بأي أعذار يتقدم بها المنصوح ، حتى إذا تحدثا أصبح حديثهم يشبه "حديث الطرشان" الذي لا يسمع أحدهما للآخر .
فجاءت هذه الرسالة تبين ما ينبغي علي الناصح والمنتصح من شروط علمية وأخلاقية ، وآداب نبوية ، أسأل الله سبحانه وتعالي أن ينفع بها .
7- تفشي ظاهرة زلات العلماء .[4]
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ][5]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : [يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله e فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ][6]
فإن ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه )[7].
وعلاقة زلة العالم بالنصيحة : أن كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ....)[8]. من أجل ذلك كان واجبا على الأتباع تجاه زلة العالم التحذير منها والإنكار على من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي e في النصيحة وآدابها.
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها )[9].
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، وورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله )[10]
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة )[11] .
الثاني : نصيحة الناس من الوقوع فيها ، سواء كانوا من أئمة المسلمين أو عوامهم.
قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إن ابن المبارك قال :كذا . فقال : إن ابن المبارك لم ينزل من السماء .[12]
و قال الإمام القرطبي في تفسيره : و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لا حجة في قول أحد مع السنة ) .
8- تفشي ظاهرة التطاول علي العلماء ، أو التعصب لهم .[13]
إن الناس في هذا الزمان قد اختلفت مواقفهم مع العلماء إلي ثلاثة أصناف .
الصنف الأول :
محب لهم مشفق عليهم ، منتبه لزللهم يدعو لهم ، يتحاشى الوقوع في أعراضهم ، يحاول جاهدا ، عدم المساس بهم ، لا كرامة لهم فقط ، وإنما كرامةً لمكانتهم التي في قلوب الناس جميعا ، مطيعهم وعاصيهم ، ويبذل النصيحة الواجبة لهم ، بأدب يليق بمكانتهم ، سالكا طرائقه الشرعية .
ولا شك أن هذا المسلك صواب لا غبار عليه ، وهو بعض ما نريد أنَّ نذهب إليه من خلال هذه الرسالة .
الصنف الثاني :
مبالغ في حبهم ، لا يري خطأ عليهم ، أو تقصيراً في جانبهم ، لذا لا يري نصحهم أو بمعني أخر ، تبيين الأمر وتجليته لهم ، وفي المقابل يشنع علي من بذل النصيحة لهم ، ويري الصواب دائماً في كل ما يقولون أو يسكتون عليه ، وكأنهم معصومين من الزلل والخطأ ، ولا شك أن هذا مسلك خطأ كثير فساده .[14]
الصنف الثالث :
صنف تحامل علي العلماء ، لشدة ما يري أنهم قصروا عن أداء ما كلفهم الله عن بذل الوسع في الصدع بالحق ، وعدم الخوف والملامة إلا من الله .
فهؤلاء أرخوا العنان لأقلامهم ، ووسعوا دائرة سبهم ، وتناولوا أعراضهم في كل شاردة وواردة ، وفي كل صغيرة وكبيرة ، وحملوهم وزر الأمة والوقوع في الغمة !!
وأخذ – هؤلاء – على متابعتهم وتتبعهم ، ومناقشة طرحهم ، ورد كلامهم وتسفيه عقولهم ، بل لا أبالغ إذا وصل الأمر إلى تكذيبهم .
وهذا الصنف الأخير محق في غضبه ، وزيادة ألمه ، ولكنه ، غير محق في إسقاط مكانتهم - شعروا بذلك أو لم يشعروا - بسبب موقف أو اثنين أو عشرة ؛ وذلك لأن الدين نصيحة وهذه النصيحة لها هدي يجب أن نتبعه كأي عبادة من العبادات لابد فيها الإخلاص مع متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، و [ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ][15] .
9- عدم الالتزام بآداب النصيحة
وهذا السبب يعتبر جامع لكل الأسباب المتقدمة وغيرها ، فإن كثيرا من الناصحين ، وكذلك المنتصحين لا يلتزمون بآداب النصيحة ، وذلك إما لجهلهم بها وهم كثر ، وإما لغفلتهم عنها .
فينتج عن ذلك الخلاف ، والشقاق ، واتهام كل طرف للآخر .
فإن كثيرا من المخلصين لا يتبع هدي النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في النصيحة ، مكتفيا بإخلاصه ، والعمل لا يكن مقبولا إلا إذا كان خالصا ، وصوابا .
فجاءت هذه الرسالة تبين هذه الآداب ، وأنها تتعلق بالناصح والمنصوح ، قبل النصيحة ، وأثناءها ، وبعدها .
من أجل ذلك كله ، جاءت هذه الرسالة ، راجيا من الله – سبحانه وتعالى أن ينفع بها